فن

السيرة السامة لأسير الهوى في «شؤون عاطفية»

رواية «شؤون عاطفية» تُبحر في عوالم الحب السام، لتكشف أعمق هواجس الحب والانكسار، وضعف الإنسان أمام شهواته وصراعه مع قيود القلب والعقل.

future غلاف رواية شؤون عاطفية الصادرة عن دار منشورات حياة، للروائي والصحفي والشاعر الإيطالي الشهير، دينو بوتزاتي، الذي أطلق عليه لقب: كافكا إيطاليا - ترجمة: جوهر عبد المولى.

مهندس معماري فنان، ناجح في عمله، ويحظى بشهرة دولية، لكنه نكرة حين يأتي الأمر إلى النساء. يقع في غرام فتاة ليل في عمر ابنته إن كان أنجب، راقصة وبائعة هوى، فتذيقه الويلات وفقًا لبروتوكول العلاقات السامة المتعارف عليه. يحتار في أمرها، وتخالجه الشكوك، وأحيانًا يشعر بالذنب بسبب ظنونه في ملاكه البريء، لكنه لا يفيق من داء الحب المهين إلا بعد أن يتجرع من الذل كؤوسًا. تبدو رواية «شؤون عاطفية» حكاية معتادة، فلماذا نقرأها في 380 صفحة كاملة دون ملل؟

لأنه ربما هناك خلط بين محبوبته والفتاة الإسبانية شديدة الشبه بها التي رآها ذات نهار.

عبر خمس وثلاثين فصلًا، وفي سرد متسلسل، يأخذنا الروائي والصحفي والشاعر الإيطالي الشهير دينو بوتزاتي، الذي أُطلق عليه «كافكا إيطاليا»، في تفاصيل علاقة عاطفية متدفقة يصبح فيها أنطونيو متعلقًا ومنقادًا كظل وراء محبوبته لايدي التي تعيش الحياة كما يحلو لها، بينما تُبقيه عبر خيوطها أسيرًا لها في الخفاء كما يظهر من الغلاف.

أنطونيو ليس متزوجًا. بغيض. ليس وسيمًا. ولهذا ترفضه النساء. لكنه شهواني مفعم بالفحولة. يهرب من واقع حرمانه ليهيم بخياله في أكثر الصور إثارة وإباحية. نشأ كاثوليكيًا يعتقد أن المرأة فاكهة محرمة، وأن ممارسة الجنس مثل الأساطير. لكن شهوة الجنس كلما تملكته صعب عليه أداء عمله وهرب لقضاء حاجته مع فتيات يافعات في بيت بغاء. بعدها يسعى لتحرير نفسه من قيود التعلق بمن التقاها فيشغل نفسه بالتزلج بعيدًا عن المدينة ويعود للعمل بذهنٍ صافٍ.

لايدي مختلفة. وقع في شباكها ليس من أجل متعته فحسب، بل حتى لو كفّا عن الحميمية لما غيّر ذلك من قلبه تجاهها رغم اختلاف عوالمهما. مع ذلك، يلاحقها بعكس أساس الاتفاق بينهما ويكبس على أنفاسها كالجاثوم. نقرأ على لسانها: «هل تعرف ما سري؟ ما زلت طفلة، مع أنني أضج بالأنوثة في الوقت ذاته... أنا السحاب.. أنا البرق.. أنا قوس قزح.. أنا فتاة صغيرة مبهجة». أخبرها صبي: «لقد وُلدتِ لكي تفقدي الرجال صوابهم».

«أحبّها على سجيتها؛ أحبّها بسبب الأشياء التي مثّلتها: الأنوثة، والطيش، والشباب، والصدق، والخبث، والاستهتار، والجرأة، والتحرر، والغموض. كانت رمزًا لعالم ليلي مبتذل، بهيج وشرير، مؤذ بلا خوف وواثق بنفسه؛ عالم يعج بالحياة التي لا يمكن إشباع عطشها، محاط بالملل والطبقة الوسطى المحترمة. كانت هي المجهولة والمغامرة، كانت هي زهرة المدينة القديمة، وقد تفتحت في فناء منزل عتيق كريه، بين الذكريات والأساطير والفقر والخطايا والظلال وأسرار ميلانو. وعلى الرغم من أن كثيرين قد دهسوها، ما زالت يانعة جميلة، ورائحتها طيبة».

النص المُطعم بالرقصات ولوحات الفن التشكيلي أقرب إلى رواية نفسية يُطلعنا فيه الراوي العليم على حديث النفس للبطل، فنبحر معه في خواطره وهواجسه وشكوكه؛ إدراكه أن مثلها لا يمكن أن يحب مثله قط، خوفه من خيانتها له مع شباب وسماء في مثل عمرها ترغب فيهم بحق، وأنها تقضي أوقاتها مع العجائز مثله من أجل المال الذي تنفق به على حياتها وتُكفّي مصروفاتها. يتصورها في أحضان آخرين فتتملكه الغيرة حتى يواجهها فتنهره ولا تمانع في مناداته بـ«ابن الساقطة». نعيش معه مواقف عديدة متأرجحة بين شد وجذب طيلة علاقته بمحبوبته منذ بدء التعارف وحتى ما انتهت إليه العلاقة لنرى كيف تحكمت فيه لايدي مثل الدمية حتى وهي تتجاهله، تحرمه وتتمنع عليه، توجعه وتعذبه في حبها، تسبّه أحيانًا وتُقرّعه، وترفضه وتكذب عليه، أما هو فصدق كل ما تقوله، وظل يرجوها أن تعامله بلطف.

بالغ في اللجوء إلى سلاح المال للانتصار في مبارزة الحب الذي ظل يشحذه منها، واعتذر لها عما ظنّه فيها، ولم يتردد في أن يُلبّي طلباتها المتعلقة بالمال أو حتى إطعام الكلب أو خدمتها وعشيقها معًا.

ولايدي تدري ما تفعله به. تعلم كيف استعبدته حتى إنه كلما اتخذ قرارًا ظاهريًا بالفراق وصارحها، قالت بأنثويتها: «كلا، كلي ثقة بأنك لن تستطيع العيش من دوني».

الانكسار الذي يعانيه أنطونيو يضاعفه فارق السن الذي يصل بينهما إلى ثلاثين عامًا. كيف لمن في مركزه أن يركع لفتاة مثلها؟ علاقات الحب المشابهة في الأدب كانت في كثير من الأحيان لامرأة تكبر الرجل لا العكس. نرى فيها علاقات لا يتقبلها المجتمع بسهولة. كذلك كان الحال في الغرب، في فرنسا تحديدًا، حين كتبت الأديبة النوبلية آني إرنو روايتها «الشاب». حكت في نص قصير صُنّف كرواية لم يصل إلى 4 آلاف كلمة عن تجربتها الشخصية في حب شاب يصغرها بنحو نصف عمرها كان يغمرها باهتمام لم تحظَ به قط. حكت عن امرأة في منتصف الخمسينات تهيم بشاب في منتصف العشرينات، فماذا قال عنها الناس؟ متصابية تحن إلى الشباب وهي في سن اليأس.

المتصابي في نصنا هذا هو أنطونيو العاشق، وبالطبع له من اسمه نصيب. الشخوص في الرواية قليلون فمدار الحكي عنه ولايدي، أما الآخرون فهوامش على الجانبين.

هذه رواية ثيمتها الحب. تجري في الستينيات في إيطاليا. ترجمها إلى العربية جوهر عبد المولى باقتدار، وصدرت عن «منشورات حياة». ثمّة حكمة بالنهاية أراد الكاتب الإيطالي توصيلها من روايته الطويلة الشيقة، والتي لا تقف عند حدود التعرف على المؤذين، أو رسم نموذج العلاقة السامة، بل طبيعة نظرة الرجل إلى المرأة ومعاملته لها باعتبارها جسدًا لا إنسانًا ذي روح.

# مراجعات أدبية # كتب # منشورات حياة

كتاب «الجغرافيا المقلوبة»: أماكن وآراء وأدب
ترشيحات معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025
ملفات سامح الصيرفي: متعة العودة لروايات الجيب

فن